فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثامنة:
أن فرعون خاطب الاثنين بقوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا} ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهرون وزيره وتابعه، وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52].
المسألة التاسعة:
في قوله: {الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وجهان: أحدهما: التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به.
وثانيهما: أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال: أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته، وقرئ خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه، والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه، وأما قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوهًا:
أحدها: أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} ما أثبتوه وتركوه؟ فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد.
وثانيها: أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولًا في قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] فقال فرعون: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا؟ وثالثها: وهو الأظهر أن فرعون لما قال: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} فذكر موسى عليه السلام دليلًا ظاهرًا وبرهانًا باهرًا على هذا المطلوب فقال: {رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} فخاف فرعون أن يزيد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي في كتاب} ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال: {الذى خَلَقَ لَكُم الأرض مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم، ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
اختلفوا في قوله: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي في كتاب} فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب؟ وتحقيقه هو أن علم الله تعالى صفته وصفة الشيء قائمة به، فأما أن تكون صفة الشيء حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين: الأول: معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول قوله: {فِى كتاب} يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لاسيما للكافر فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة؟ الوجه الثاني: أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه، وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى}.
المسألة الثانية:
اختلفوا في قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما، ثم ذكروا وجوهًا:
أحدها: وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالمًا بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله: ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير.
وثانيها: قال مقاتل: لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه.
وثالثها: قال الحسن لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه.
ورابعها: قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء.
وخامسها: قال ابن جرير لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صوابًا وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول.
المسألة الثالثة:
أنه لما سأله عن الإله وقال: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة.
أولها: قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ أهل الكوفة هاهنا وفي الزخرف {مهدًا} والباقون قرؤوا مهادًا فيهما قال أبو عبيدة: الذي اختاره مهادًا وهو اسم والمهد اسم الفعل، وقال غيره: المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشًا يقال مهد مهدًا ومهادًا وفرش فرشًا وفراشًا.
البحث الثاني: قال صاحب الكشاف: {الذي جَعَلَ} مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبرًا لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّن نبات شتى} على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث: المراد من كون الأرض مهدًا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاء} [البقرة: 22].
وثانيها: قوله تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} قال صاحب الكشاف سلك من قوله: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} [المدثر: 42] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} [الشعراء: 200] أي جعل لكم فيها سبلًا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري.
وثالثها: قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّن نبات شتى} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {فَأَخْرَجْنَا} فيه وجوه:
أحدها: أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجًا من نبات شتى.
وثانيها: أن عند قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلًا بالكلام الأول بقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ثم يدل على هذا الاحتمال قوله: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم}.
وثالثها: قال صاحب الكشاف انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء} [الأنعام: 99] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] واعلم أن قوله: {فَأَخْرَجْنَا} إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم إِنَّ في ذلك لأيات لأُوْلِى النهى مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} لا يليق بموسى عليه السلام وأيضًا فقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّن نبات شتى} لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّن نبات شتى} لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} ثم ابتدىء كلام الله تعالى من قوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} ويكون التقدير هو الذي {جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتًا.
المسألة الثانية:
ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه ألبتة.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: {أزواجا} أي أصنافًا سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض {شتى} صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم أما قوله: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} فهو حال من الضمير في أخرجنا والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها.
وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع فهو كقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [البقرة: 188] وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] وقوله: {كُلُواْ} أمر إباحة {إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما ذكرت من هذه النعم {لآيَاتٍ} أي لدلالات لذوي النهى أي العقول والنهية العقل.
قال أبو علي الفارسي: النهى يجوز أن يكون مصدرًا كالهدى ويجوز أن يكون جمعًا أما قوله: {مِنْهَا خلقناكم} فاعلم أنه سبحانه لما ذكر منافع الأرض والسماء بين أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال: {مِنْهَا خلقناكم} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: ما معنى قوله: {مِنْهَا خلقناكم} مع أنه سبحانه وتعالى خلقنا من نطفة على ما بين ذلك في سائر الآيات.
والجواب من وجهين: الأول: أنه لما خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب على ما قال: {كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] لا جرم أطلق ذلك علينا.
الثاني: أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي والحيواني ينتهي إلى النبات والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.
والثالث: ذكرنا في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] خبر ابن مسعود أن الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرزق والأرض التي يدفن فيها وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة ويذره على النطفة ثم يدخلها في الرحم.
السؤال الثاني: ظاهر الآية يدل على أن الشيء قد يكون مخلوقًا من الشيء وظاهر قول المتكلمين يأباه.
والجواب: إن كان المراد من خلق الشيء من الشيء إزالة صفة الشيء الأول عن الذات وأحداث صفة الشيء الثاني فيه فذلك جائز لأنه لا منافاة فيه، أما قوله تعالى: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} فلا شبهة في أن المراد الإعادة إلى القبور حتى تكون الأرض مكانًا وظرفًا لكل من مات إلا من رفعه الله إلى السماء، ومن هذا حاله يحتمل أن يعاد إليها أيضًا بعد ذلك، أما قوله تعالى: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} ففيه وجوه: أحدها: وهو الأقرب: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} يوم الحشر والبعث.
وثانيها: ومنها نخرجكم ترابًا وطينًا ثم نحييكم بعد الإخراج وهذا مذكور في بعض الأخبار.
وثالثها: المراد عذاب القبر عن البراء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فذكر عذاب القبر وما يخاطب به المؤمن والكافر وأنه ترد روحه في جسده ويرد إلى الأرض وأنه تعالى يقول عند إعادتهم إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى واعلم أن الله تعالى عدد في هذه الآيات منافع الأرض وهي أنه تعالى جعلها لهم فراشًا ومهادًا يتقلبون عليها وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف أرادوا وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلف دوابهم وهي أصلهم الذي منه يتفرعون ثم هي كفاتهم إذا ماتوا، ومن ثم قال عليه السلام: «بروا بالأرض فإنها بكم برة». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه لنكاحه، قاله ابن عباس والسدي.
الثاني: أعطى كل شيء صورته، ثم هداه إلى معيشته ومطعمه ومشربه، قاله مجاهد قال الشاعر:
وله في كل شيء خلقهُ ** وكذلك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة الصورة.
الثالث: أعطى كلًا ما يصلحه، ثم هداه له، قاله قتادة.
ويحتمل رابعًا: أعطى كل شيءٍ ما ألهمه من علم أو صناعة وهداه إلى معرفته.
قوله تعالى: {فَمَا بَالُ الْقُرونِ الأَُولَى} وهي جمع قرن، والقرن أهل كل عصر مأخوذ من قرانهم فيه.
وقال الزجاج: القرن أهل كل عصر وفيه نبي أو طبقة عالية في العلم، فجعله من اقتران أهل العصر بأهل العلم، فإذا كان زمان فيه فترة وغلبة جهل لم يكن قرنًا.
واختلف في سؤال فرعون عن القرون على أربعة أوجه:
أحدها: أنه سأله عنها فيما دعاه إليه من الإيمان، هل كانوا على مثل ما يدعو إليه أو بخلافه.
الثاني: أنه قال ذلك له قطعًا للاستدعاء ودفعًا عن الجواب.
الثالث: أنه سأله عن ذنبهم ومجازاتهم.
الرابع: أنه لما دعاه إلى الإِقرار بالبعث قال: ما بال القرون الأولى لم تبعث.
{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} فرد موسى علم ذلك إلى ربه.
{فِي كِتَابٍ} {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أي لم يجعل علم ذلك في كتاب لأنه يضل أو ينسى.
ويحتمل إثباته في الكتاب وجهين:
أحدهما: أن يكون له فضلًا له وحكمًا به.
الثاني: ليعلم به ملائكته في وقته.
وفي قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} وجهان:
أحدهما: لا يخطىء فيه ولا يتركه.
الثاني: لا يضل الكتاب عن ربي، ولا ينسى ربي ما في الكتاب، قاله ابن عباس.
قال مقاتل: ولم يكن في ذلك الوقت عند موسى علم القرون الأولى، لأنه علمها من التوراة، ولم تنزل عليه إلا بعد هلاك فرعون وغرقه.
قوله تعالى: {لأُوْلِي النُّهَى}.
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أولي الحكم.
الثاني: أولي العقل، قاله السدي.
الثالث: أولي الورع.
وفي تسميتهم بذلك وجهان:
أحدهما: لأنهم ينهون النفس عن القبيح.
الثاني: لأنه ينتهي إلى آرائهم. اهـ.